إذا روى التابعي حديثاً عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فإما أن يقول: «حدثني رجل من الصحابة، أو ممن صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم... ونحو ذلك»، وإما أن يقول: «عن رجل من الصحابة، أو عن رجل صحب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم... ونحو ذلك».
فإن صرح بالسماع – وصح السند إلى التابعي – فالسند صحيح، وإبهام الصحابي لا يضر، لأنَّ الصحابة كلهم عدول، - وإن أرغمت أنوف بعض أهل البدع المخالفين في ذلك– ولا أ‘رف بين أهل العلم خلافاً في ذلك، إلا في قول من يسمى هذا مرسلاً، وإن كان بعضهم يسميه مرسلاً، ثم يحتج به، وبعضهم لا يحتج به، كما في «النكت» (2/548، 571) لكن إذا لم يصرح التابعي باسم الصحابي، فهنا إشكال: وهو أنّنا لم نعرف عين الصحابي، لنعرف هل هو من الصحابة الذين سمع منهم التابعي، أو من الصحابة الذين لم يسمع منهم التابعي؟ وقد قال الحافظ العراقي في «التقييد والإيضاح» (ص:74) نعم، فرّق أبوبكر الصيرفي من الشافعية، في كتاب «الدلائل» بين أن يرويه التابعي عن الصحابي معنعناً، أو مع التصريح بالسماع، فقال: وإذا قال في الحديث بعض التابعين: عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: لا يُقْبَل، لأني لا أعلم سمع التابعي من ذلك الرجل، إذ قد يحدث التابعي عن رجل وعن رجلين عن الصحابي، ولا أدري هل أمكن لقاء ذلك الرجل، أم لا؟ فلو علمتُ إمكانه منه، لجعلته كمدرك العصر، قال وإذا قال: سمعت رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قُبِل، لأنَّ الكل عدول، قال
الحافظ العراقي: انتهى كلام لاصيرفي، وهو حسن متجه، وكلام من أطلق قبوله؛ محمول على هذا التفصيل، والله أعلم، اهـ ومال إلى هذا السيوطي في «ألفيّته» حيث قال:
ورجلُ من الصِّحاب وأبَى الصيرفي معنعناً ولْيُجتبى
انظر شرح «ألفية السيوطي» للشيخ علي بن آدم – حفظه الله – (1/141) – وقد قال بهذا التفصيل، برهان الدين الأبناسي – وهو والحافظ العراقي وُلدا في سنة واحدة، ومات قبل العراقي بأربع سنوات – في كتابه «الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح» – (1/151).
وقد رد الحافظ ابن حجر ما استحسنه شيخه العراقي، كما في «النكت على ابن الصلاح» (2/562-563) فقال: فقد حكى شيخنا كلام أبي بكر الصيرفي في ذلك، وأقره، وفيه نظر، لأن التابعي إذا كان سالماً من التدليس؛ حملت عنعنته على السماع، وإن قلت: هذا إنّما يتأتى في حق كبار التابعين الذين جُل روايتهم عن الصحابة بلا واسطة، وأما صغار التابعين الذين جل روايتهم عن التابعين، فلا بد من تحقق إدراكه لذلك الصحابي، والفرض أنَّه لم يسمه، حتى يُعلم هل أدركه أم لا؟
فينقدح صحة ما قال الصيرفي.
قال الحافظ: قلت: سلامته من التدليس كافية في ذلك، إذ مدار هذا على قوة الظن به، وهي حاصلة في هذا المقام، والله أعلم، اهـ.
وقد انتصر المباركفوري في كتابه «تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام» (ص:178-187) لما ذهب إليه الحافظ، وحكم بصحة رواية التابعي – سواء كان صغيراً أو كبيراً – إذا روى عن أحد الصحابة، سواء بالعنعنة أو بالتصريح بالسماع، وسواء كان هذا التابعي ممن يرسل عن بعض الصحابة، أم لا، كما يظهر من الأمثلة التي ذكرها، ومن تصريحه ببعض ذلك، بشرط أن يكون التابعي غير مدلس.
والأمثلة التي ذكرها في ذلك:
1 – قول محمد بن أبي عائشة – وهو من الطبقة الرابعة في «التقريب» – عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «لعلكم تقرأون والإمام يقرأ؟»... الحديث، أخرجه أحمد (4/236)، (5/60، 81، 410)، والبيهقي في «الكبرى» (2/166) وفي الجزء القراءة (ص:61).
وقد صحح سنده البيهقي في «المعرفة» (2/54)، وحسنه الحافظ في «التلخيص» (1/231).
2 – ومنها ما رواه أبو داود (1/143/519) من طريق عروة بن الزبير عن امرأةمنبني النجار، قالت: كان بيتي أطول بيت حول المسجد، وكان بلال يؤذن عليه الفجر... الحديث.
وقد حسن سنده الحافظ في «الفتح»، وعروة من الثالثة، وممن يرسل.
3 – ومنها ما رواه النسائي (5/225) وأحمد (3/414) عن طاوس عن رجل أدرك أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: «الطواف صلاة» وقال الحافظ في «التلخيص» (1/130) هذه الرواية صحيحة... اهـ.
4 – ومنها ما رواه الترمذي (5/536) من طريق جُرَيّ بن كليب النهدي عن رجل من بني سليم، فقال: عدَّهن رسول الله في يدي... الحديث، وقال: هذا حديث حسن اهـ.
5 – ومنها ما روى مسلم (3/1295/1670) من طريق ابن شهاب، أخبرني أبو سلمة بن عبدالرحمن وسليمان بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من الأنصار، أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أقر القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية:
قال: وإخراج مسلم لهذه الرواية؛ يكفي دليلاً على اتصال سندها اهـ.
قلت: ولم أقف على من أعلَّ هذه الرواية من الحفاظ، والله أعلم.
وزاد ابن التركماني في «الجوهر النقي» في ذيل «الكبرى» للبيهقي (1/83) أنَّ البخاري أخرج في «صحيحه» (7/421) ك/ المغازي، باب/ غزوة ذات الرقاع، من طريق صالح بن خوّات عمن صلى من النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوم ذات الرقاع – وصالح بن خوات من الرابعة.
ثم قال المباركفوري: فهذه عدة روايات، رَوَى في كل منها التابعي مُعَنْعِناً عن صحابي مبهم، ولم يصرح فيها بالسماع، ومع ذلك صرح أئمة الحديث بحسنها وصحتها، وتوجد من هذا القبيل روايات كثيرة، لا نطيل بذكرها، فقد ثبت أن التابعي صغيراً كان أو كبيراً، إذا روى عن صحابي مبهم معنعناً، فتكون روايته متصلة، مثلما إذا صرح بالسماع سواء، وقول المحدثين: «جهالة اسم الصحابي لا تضر» يشمل العنعنة والتصريح.
قال: وما ذكر من تنصيص العراقي بالفرق بين أن يصرح بالتحديث والسماع، فهو متصل، وبين أن يعنعن، فهو غير متصل، وحَمْلُه قول المحدثين على تصريح السماع والتحديث، فهذا التفريق سبق به الصيرفيُّ الشافعيُّ، وأورده العراقي، وقال: هو حسن متجه؛ ولكن لم يذهب إلى هذا التفريق أحدمنأئمة الحديث غير الصيرفي، ولا حسّنه أحد غير العراقي، ويكفي الوجهان المذكوران لإثبات عموم المحدثين لكلا النوعين، وإبطال هذا التفريق، وعدم اعتباره... إلى أن قال:
ويظهر بطلان هذا التفريق من قول الحميدي – أيضاً -: إذا صح الإسناد عن الثقات إلى رجل من الصحابة، فهو حجةٌ، فإنَّه يشمل بعمومه رواية التابعي عن الصحابي معنعناً. اهـ.
وقد ذكر الزيلعي حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي أنَّه عليه السلام رأى رجلاً يصلي، وفي قدمه لمعة لم يصبها الماء، فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة... أخرجه أبو داود.
قال: ومن طريق أبي داود رواه البيهقي في السنن، وقال: إنَّه مرسل، قال في «الإمام» عدم ذكر اسم الصحابي لا يجعل الحديث مرسلاً، فقد قال الأثرم: سألت أحمد بن حنبل عن هذا الحديث؟ فقال: إسناده جيد، قلت له: إذا قال التابعي: حدثني رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آسه وسلم، ولم يسمه، أيكون الحديص صحيحاً؟ قال: نعم اهـ. من «نصب الراية» (1/35-36). وانظره في «التلخيص الحبير» (1/167).
فهذا الإمام أحمد صحح حديث خالد بن معدان عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، مع أنَّ خالد بن معدان مشهور بالإرسال، وهو من الثالثة.
وعندما سأله الأثرم، سأله عن التابعي الذي يصرح بالسماع عن صحابي مبهم، وليس هذا محل إشكال، إنّما الإشكال إذا عنعن التابعي، إلا أنَّ تصحيحه لحديث خالد هذا – مع العنعنة – يدل على أنَّه لا يحترز بالتصريح بالسماع من العنعنة.
وقد ذهب إلى ذلك المباركفوري في «تحقيق الكلام» (ص:185-186) واستدل بأنَّ أحمد يتساهل في رواية الفضائل بخلاف الأحكام والحلال والحرام، وأنَّ رواية أحمد في «المسند» لحديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، يدل على تحريه فيه، وإلا لو كانت هذه الصيغة عنده لا يحتج بها، لما أخرجه في «المسند» وإلا كان متساهلاً – أيضاً – في الأحكام والحلال والحرام... هذا ملخص ما استدل به، ولا يخلو من بحث، والله أعلم.
ومع أن كلام الصيرفي من جهة النظر له وجه، إلا أن صنيع هؤلاء العلماء الذين أخرجوا نحو هذه الأحاديث في الصحاح، أو صححوها، لا يجوز إهداره أو تجاهله، وقد وقفت على كلام للعلامة النقادة المعلمي يرحمه الله، أزال الله به كثيراً من الإشكال الذي كان في نفسي، فقد قال – يرحمه الله – في «التنكيل» (ص:271):
المبحث الثالث: - أي من مباحث في الاتصال والانقطاع – لا يكفي احتمال المعاصرة، لكن إذا كان الشيخ غير مسمى، ففي كلامهم ما يدل على أنه يُحكم بالاتصال، وذلك فيما إذا جاءت الرواية عن فلان التابعي عن رجلمنأصحاب النبي، ونحو ذلك... والفرق بين التسمية والإبهام، أن ظاهر الصيغة السماع – يعني أن قول التابعي «عن» ظاهره أنه سمع ممن فوقه، وإن لم يسمه -، والثقة إذا استعملها – أي: كلمة: «عن» -، في غير السماع؛ ينصب قرنية – أي: لتدل على عدم سماعه، كأن يقول: بلغني عن فلان مثلاً -، قال: فالمدلَّس يعتد بأنه قد عُرف منه التدليس قرينة – أي: أنَّه لا يحتاج إلى نصب قرينة حال الرواية، لعلم سامعه بأنَّه يدلس -، وأما غيره – أي: غير المدلس -، إذا سمى شيخاً، ولم يثبت عندنا معاصرته له، فمن المحتمل أنه كان معروفاً عند أصحابه، أنَّه لم يدركه، فاعتد بعلمهم بذلك قرينة، وأهل العلم كثيراً ما ينقلون في ترجمة الراوي بيان من حدَّث عنهم ولم يلقهم، بل أفردوا ذلك بالتصنيف، كـ «مراسيل ابن أبي حاتم» وغيره، ولم يعتنوا بنقل عدم الإدراك؛ لكثرته، فاكتفوا باشتراط العلم بالمعاصرة، فأما إذا أبهم فلم يسم، فهذا الاحتمال منتف، لأنَّ أصحاب ذلك التابعي، لم يعرفوا عين ذلك الصحابي، فكيف يعرفون أنَّه لم يدركه، أو أنَّه لم يلقه؟ ففي هذا تنتفي القرينة، وإذا انتفت ظهر السماع، وإلا لزم التدليس، والفرضُ عدمُهُ.
ثم قال: هذا ما ظهر ليّ، وعندي فيه توقف، اهـ.
فأنت ترى أنَّ العلامة المعلمي يرحمه الله بنى كلامه على أن الأصل في كلمة «عن» السماع، وأنَّ من ادعى أنًّ التابعي لم يسمع من هذا الصحابي المبهم؛ فعليه الدليل، حيث لم يقم التابعي دليلاً على عدم السماع لهذا الحديث، من هذا الصحابي المبهم، ولو كان التابعي لم يسمع هذا الحديث ممن أبهممنالصحابة، وأوقع غيره في ظن السماع، لكان مدلساً، والمسألة محلها فيما إذا كان التابعي ليس مدلساً، أما لو كان مدلساً، لما قبلنا منه العنعنة، وإن صرح باسم الصحابي، فكيف إذا أبهمه؟!.
وبما قرره الإمام المعلمي – يرحمه الله – يترجح ليّ أن قول التابعي – غير المدلس -: «عن رجل من الصحابة»، أنَّه لا غبار عليه، وإنّما الشأن في ثبوت ذلك إلى التابعي، وهذا مذهب أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم، لما سبق من أمثلة، وبعد هذا؛ فلعل توقف المعلمي – مع ما جاء في كلامه بما يزيل كثيراً من الإشكال – من أجل ما يتمتع به تفصيلُ الصيرفي من وجاهة في النظر، لكن صنيع المحدثين مقدم على مجرد نظر غيرهم.
وقد كنت في أول بحثي لهذه المسألة، استحسنت التفرقة بين التابعي الذي عُرف بالإرسال عن الصحابة، لا سيما الصغار منهم، وبين كبار التابعين الذين جُل روايتهم عن الصحابة، فاستحسنت تصحيح رواية الكبار دون الصغار، الذين يرسلون كثيراً، حتى رأيت العلماء يصححون لمن اشتهر بالإرسال، كخالد بن معدان وغيره، ولما وقفت على كلام المعلمي انشرح صدري إلى حد كبير – لما ذهب إليه الحافظ ابن حجر وغيرهمنالعلماء، والله أعلم.
0 komentar:
Posting Komentar