قد تكلم الإمام الشافعي – يرحمه الله – في هذا الأمر، وأسهب في ذلك، ويليق بي في هذا الموضع أن أذكر كلامه هنا، وأن أذكر كلام الأئمة حول كلام الإمام الشافعي، وأبين ما ترجح عندي في ذلك.
قال الإمام الشافعي – يرحمه الله -: .... فقال – أي: السائل – فهل تقوم بالحديث المنقطع حجة على من علمه؟ وهل يختلف المنقطع؟ أو هو وغيره سواء؟
قال الشافعي: فقلت له: المنقطع مختلف:
فمَنْ شَاهَدَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم من التابعين، فحدث حديثاً منقطعاً عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، اعتُبر عليه بأمور:
منها: أن يُنظر إلى ما أرْسل من الحديث: فإن شركه فيه الحفاظ المأمونون، فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بمثل معنى ما روى، كانت هذه دلالة على صحة من قَبِل عنه وحفظه.
وإن انفرد بإرسال حديث، لم يَشرَكه فيه من يُسنده؛ قُبِلَ ما ينفرد به من ذلك.
ويعتبر عليه بأن يُنظر: هل يوافقه مرسِلٌ غيرُه، ممن قُبل العلمُ عنه، من غير رجاله الذين قُبل عنهم؟ فإن وُجد ذلك، كانت دلالة يَقْوَى له مرسله، وهي أضعف من الأولى، وإن لم يوجد ذلك، نُظِر إلى بعض ما يُروى عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قولاً له، فإن وجد يوافق ما رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ كانت في هذه دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح، إن شاء الله.
وكذلك إن وُجد عوامٌّ من أهل العلم يُفتون بمثل معنى ما روى عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
قال الشافعي: ثم يُعتبر عليه: بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم (يسم) مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فيُستدل بذلك على صحته فيما روى عنه.
قال: ويكون إذا شَرَك أحداً من الحفاظ في حديث؛ لم يخالفه، فإن خالفه (ووجد) حديثه أنقص: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه.
قال: ومتى خالف ما وصفتُ أضرَّ بحديثه، حتى لا يَسَعَ أحداً منهم قبولُ مرسَلِه.
قال: وإذا وُجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصفتُ، أحببنا أن نقبل مرسَلَه، ولا نستطيع أن نزعُم أن الحجة تثبت به ثبوتها بـ (المتصل).
قال: وذلك أن معنى المنقطع مُغيَّب، يحتمل أن يكون حُمل عمن يُرغب عن الرواية عنه إذا سُمِّي، وأنَّ بعض المنقطعات – وإن وافقه مرسل مثله – فقد يحتمل أن يكون مخرجها واحداً، من حيث لو سُمِّي لم يقبل، وأنَّ قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم إذا قال برأيه لو وافقه، يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نُظِر فيها، ويمكن أن يكون إنّما غلط به حين سمع قول بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم يوافقه، ويحتمل مثل هذا فيمن وافقه من بعض الفقهاء.
قال الشافعي – يرحمه الله -: فأمّا من بعد كبار التابعين الذين كثرت مشاهدتهم لبعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ فلا أعلم منهم واحداً يُقبل مرسله، لأمور:
أحدها: أنهم أشد تجوزاً فيمن يروون عنه.
والآخر: أنَّهم توجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا بضعف مخرجه.
والآخر: كثرة الإحالة، كان أمكن للوهم وضعف من يُقبل عنه.....
قال: ومن نظر في العلم بخبرة وقلة غفلة، استوحش من مرسل كل من دون كبار التابعين بدلائل ظاهرة فيها.
قال – أي: السائل -: فلِمَ فرَّقت بين التابعين المتقدمين الذين شاهدوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وبين من شاهد بعضهم دون بعض؟
فقلت: لِبُعْدِ إحالة من لم يشاهد أكثرهم.
قال: فلِمَ لا تَقْبَل المرسَل منهم، ومِنْ كل فقيه دونهم؟ قلت: لما وصفتُ... ثم قال الشافعي: وابن شهاب عندنا إمام في الحديث والتخيير وثقة الرجال، إنما يُسميِّ بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ثم خيار التابعين، ولا نعلم محدثاً يُسمِّى أفضلَ ولا أشهر ممن يحدِّث عنه ابنُ شهاب.
قال – أي: السائل -: فأنى تُراه أُتي في قبوله عن سليمان بن أرقم؟.
قال الشافعي: رآه رجلاً من أهل المروءة والعقل، فقبِل عنه، وأحسن الظن به، فسكت عن اسمه، إمَّا لأنَّه أصغر منه، وإما لغير ذلك، وسأله معمر عن حديثه، فأسنده له.
قال الشافعي: فلما أمكن في ابن شهاب أن يكون يروي عن سليمان – مع ما وصفتُ به ابن شهاب – لم يُؤْمَن مثل هذا على غيره... اهـ، من «الرسالة» (ص:461-470) من رقم: (1262-1305).
قال ابن رجب – يرحمه الله تعالى – بعد ذكره لكلام الشافعي – يرحمه الله -:
وهو كلام حسن جداً، ومضمونه أنَّ الحديث المرسل يكون صحيحاً، ويُقبل بشروط، منها: في نفس المرسِل:
وهي ثلاثة:
أحدها: أن لا يُعرف له رواية عن غير مقبول الرواية، من مجهول، أو مجروح.
ثانيها: أن لا يكون ممن يخالف الحفاظ إذا أسند الحديث فيما أسندوه، فإن كان مِمّن يخالف الحفاظ عند الإسناد لم يُقبل مرسله.
ثالثها: أن يكون من كبار التابعين، فإنَّهم لا يروون غالباً إلا عن صحابي، أو تابعي كبير، وأمّا غيرهم من صغار التابعين ومن بعدهم؛ فيتوسعون في الرواية عمّن لا تقبل روايته، - وأيضاً – فكبار التابعين كانت الأحاديث في وقتهم الغالب عليها الصحة، وأما من بعدهم فانتشرت في أيامهم الأحاديث المستحيلة، وهي الباطلة الموضوعة، وكثر الكذب – حينئذ .
قال: فهذه شرائط من يُقبل مرسَلُه.
وأمّا الخبر الذي يرسله: فيشترط لصحة مخرجه وقبوله أن يعضده ما يدل على صحته، وأن له أصلاً.
والعاضد له أشياء:
أحدها: - وهو أقواها – أن يسنده الحفاظ المأمونون من وجه آخر عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ بمعنى ذلك المرسَل، فيكون دليلاً على صحة المرسَل، وأن الذي أرسل عنه كان ثقة.
والثاني: أن يوجد مرسَل آخر موافق له عن عالم يروي عن غير من يروي عنه المرسِل الأول، فيكون ذلك دليلاً على تعدد مخرجه، وأنَّ له أصلاً؛ بخلاف ما إذا كان المرسِل الثاني لا يروى إلا عمّن يروي عنه الأوّل، فإن الظاهر أنَّ مخرجهما واحد، لا تعدد فيه، وهذا الثاني أضعف من الأول.
والثالث: أن لا يوجد شيء مرفوع يوافقه لا مسند ولا مرسَل، لكن يوجد ما يوافقه من كلام بعض الصحابة، فيُستدل به على أن للمرسَل أصلاً صحيحاً أيضاً، لأن الظاهر أ، الصحابي إنما أخذ قوله عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
والرابع: أن لا يوجد للمرسَل ما يوافقه، لا مسند ولا مرسل، ولا قول صحابي، لكنه يوجد عامة أهل العلم على القول به، فإنه يدل على أن له أصلاً، وأنهم مستندون في قولهم إلى ذلك الأصل (قال ابن رجب – يرحمه الله -: فإذا وجدت هذه الشرائط، دلت على صحة المرسل، وأن له أصلاً، وقُبِلَ واحتُجَّ به، ومع هذا فهو دون المتصل في الحجة... ثم ذكر ما ذكره الشافعي – يرحمه الله – من احتمالات ضعف هذه الشواهد، ثم قال: لكن هذا في حق كبار التابعين بعيد جداً، اهـ. من «شرح علل الترمذي» (1/545-550).
فقد ذكر ابن رجب – يرحمه الله – كلام الشافعي مستحسناً له جداً، وكذا ذكره غير واحد. ولم يتعرضوا لمناقشة بعض المواضع من كلامه – يرحمه الله -، وقد تكلم في كثير من هذه المواضع الحافظ العلائي – يرحمه الله -، في «جامع التحصيل»، أو سأضمن كلامه في موضعه من مناقشتي لكلام الشافعي – رحمة الله عليه، - إن شاء الله تعالى -.
فأقول:
قد بيَّن الإمام الشافعي – يرحمه الله – المواضع التي يُقبل فيها المرسَل – على ما في المرسَل من عدم العلم بحال من سقط من السند – وذكر يرحمه الله شروط ذلك، وفيما ذكره مواضع تستحق البحث، فمن ذلك:
(أ) اشتراطه في المرسِل أن يكون إذا سمى من روى عنه، لم يسم مجهولاً ولا مرغوباً عن الرواية عنه، فهذا الشرط لو تأكدنا من تحققه؛ لقبلنا المرسَل ممن هذا وصفه دون توقف لشاهد، والمقام مقام اعتبار المرسَل إذا كان له شاهد، لا أنه يحتج بالمرسَل بمفرده.
وقد لاحظ هذا المعنى العلائي – يرحمه الله -، فقال في «جامع التحصيل» (ص:42-43) بعد ذكره شرط الشافعي – يرحمه الله -: وقد قال أبو عمر بن عبدالبر وأبو الوليد الباجي: لا خلاف أنَّه لا يجوز العمل بالمرسل، إذا كان مرسِلُه غير متحرز يرسل عن غير الثقات. قال العلائي: وهذا الشرط وحده كاف في اعتبار المرسَل وقبوله، كما تقدم في احتجاج الشافعي بمراسيل سعيد بن المسيب. يعني أن الشافعي عرف ثقة الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم اهـ ومما يؤكد أن الشافعي – يرحمه الله – أراد ثقة الرجال بين المرسِل والنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، أنَّه لم يقبل مرسل الزهري لمجرد أنَّه روى عن سليمان بن أرقم في حديث واحد، مع أنَّه وصفه بقوله: ولا نعلم محدثاً يسمى أفضل ولا أشهر ممن يحدث عنه ابن شهاب، اهـ من الرسالة (ص:469) ومع ذلك فقد قال: وإرسال الزهري عندنا ليس بشيء، وذلك أنا نجده يروي عن سليمان بن أرقم، اهـ من «جامع التحصيل» (ص:43) فلو كان الشافعي – يرحمه الله – يريد أن يكون مشايخ المرسِل في الغالب ثقات – لا جميعهم – لقبل مرسل الزهري، فإذا كان الشافعي يريد ثقة جميع رجال المرسِل بينه وبين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فهذا الشرط وحده كافٍ في الاحتجاج بالمرسل بدون شواهد. ومما يدل على أن الراوي إذا كان شيوخه ثقات؛ فلا يضر إرساله، ما ذكروا في إرسال النخعي عن ابن مسعود، وكذا راوية أبي عبيدة عن أبيه ابن مسعود، وكذلك ما قاله العلائي في «جامع التحصيل (ص:168) في رواية حميد عن أنس التي ثبته فيها ثابت.
وكذلك فقد ذكر ابن القيم هذا الشرط لمن يُعْتدّ بمرسله، فقال في «زاد المعاد» (1/379) في فصل في تعظيم يوم الجمعة وتشريفه:
وحديث أبي قتادة هذا، قال أبوداود: هو مرسل، لأنَّ أبا الخليل لم يسمع من أبي قتادة، والمرسل إذا اتصل به عمل، وعضده قياس، أو قول صحابي، أو كان مرسلُه معروفاً باختيار الشيوخ، ورغبته عن الرواية عن الضعفاء والمتروكي، ونحن ذلك مما يقتضي قوته، عُمِل به، اهـ. والله أعلم.
(ب) اشتراط الشافعي أن يكون المرسِل إذا، شرك أحداً من الحفاظ في حديث لم يخالفه، فإن خالفه «ووُجد) حديثه أنقص؛ قال: كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه، اهـ.
فهذا الشرط هو شرط الثقات عموماً، فلا يحكم على على راوٍ بأنه ثقة إلا إذا كان ممن يوافق الثقات، وغلب ذلك على حديثه، وإذا خالفهم بالنقص فهو دليل على تحريه، بخلاف ما إذا خالفهم بالزيادة، ولا خصوصية للمرسِل بهذا الشرط.
وقد قال العلائي – يرحمه الله – كما في (ص:44):
وهذا المعنى لا ينفرد به قبول المرسل، بل هذا الاعتبار جارٍ في كل راوٍ، سواء روى مرسلاً أو مسنداً، بخلاف الأمور المتقدمة، فإنَّها معتبرة في المرسل تقويةً له حتى يفيد الظن، إذا انضم إليه شيء مما تقدم، وإنما ذكر الشافعي هذا الشرط هنا، وهو جارٍ في كل راوٍ، كما صرح به في موضع آخر في الراوي مطلقاً، بقوله: إذا شرك أهل الحفظ في حديثهم وافقهم، لئلا يُظن أن الأمور المتقدمة وحدها كافية في قبول المرسل، إذا انضم بعضها إليه، فبيّن الشافعي – يرحمه الله – أنَّه لا بد مع ذلك من هذا الشرط في الراوي له، كما هو شرْط في راوي المسند، اهـ.
فتحصل من ذلك أن الشافعي – يرحمه الله – أراد أن يقول: أن يكون التابعي المرسِل ثقةً.
وإذا كان ذلك كذلك، فهو داخل في شرط كبار التابعين، وفي شرط من لا يروى إلا عن ثقة، لأنه إذا كان كذلك فكيف يكون ضعيفاً؟ فما فائدة التنصيص إذاً على هذا الشرط؟.
وإن كان المقصود أنَّه يُستدل بكثرة موافقته، وكون مخالفته بالنقص؛ على صحة حديثه لذاته، كما يشير إلى ذلك قوله: «كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه» إذا كان هذا هو المراد من كلام الشافعي يرحمه الله، فيرد عليه ما ورد في المسألة (أ) وهو أن المقام مقام تقوية المرسَل بالشواهد، لا مقام الاحتجاج به.
(ج) وقول الشافعي – يرحمه الله -: ويعتبر عليه بأن يُنظر: هل يوافقه مُرسِلٌ غيرُه ممن قُبِل العلم عنه من رجاله الذين قُبل عنهم اهـ من «الرسالة» ص (462) هذا القول مما يُشكل فهمه وتطبيقه عملياً:
فظاهر كلام الشافعي يرحمه الله أنَّه يشترط أن يكون كل من التابعيَّين له شيوخ غير شيوخ الآخر، وهذا الذي صرح به جماعة من العلماء الذين شرحوا كلام الشافَعي يرحمه الله.
ووجه الإشكال هنا من جهات:
الأولى: هل يتصور تابعي – وكبير على قول الشافعي يرحمه الله – لم يشارك نظيره في أي شيخ من شيوخه؟ هذا ما استبعده جداً، فإن المعلوم من حال الطلاب الجادين في الطلب، لا سيما كبار التابعين، أنهم يتتبعون ثقات المشايخ حيثما كانوا، فلا بد من اجتماع الطالبين ولو في شيخ واحد، وإن اتفقا – ولو في شيخ واحد – انخرم ما قال الشعي يرحمه الله -.
الثانية: لو سلمنا بوجود تابعي كبير لم يشترك مع نظيره في شيخ من المشايخ، فما الفائدة من ذلك؟ فإن قيل: الفائدة من ذلك تعدد المخارج، الذي يورث في النفس ظناً قوياً بصحّة المرسَل، فالجواب: أن هذا الظن حاصل إذا اشتركا في جميع الشيوخ، وكان الشيوخ ثقات، ليس فيهم ضعيف، لأنَّ الحديث في هذه الحالة يكون حيثما دار دار على ثقة، فشرْطٌ تخلّفُه لا يضر لا يُسمَّى شرطاً، وإذا كان الشافعي يرحمه الله، قد اشترط في المرسل أن لا يكون إذا سمى شيخه يسمى مرغوباً عن الرواية عنه، فما حاجتنا إلى اشتراط تعدد المخرج بعد ذلك؟.
الثالثة: لازم هذا الشرط ترك الاستشهاد بالمرسَل مع المرسَل بالكلية، لعدم وقوع ذلك عملياً، وهذا الشرط قد حمل شيخنا الألباني حفظه الله تعالى على القول بذلك – وإن كان هذا خلاف صنيعه في كُتبه – فقد قال حفظه الله – في «نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق» (ص:23-24):
قلت: فإذا عُرف أن الحديث المرسَل لا يُقْبل، وأنَّ السبب هو الجهل بحال المحذوف، فيرد عليه بأنَّ القول: بأن يقْوى بمرسَل آخر، غير قوي، لاحتمال أن يكون كل من أرسله إنَّما أخذه عن راوٍ واحد، وحينئذٍ ترد الاحتمالات التي ذكرها الحافظ – يعني الحافظ ابن حجر في كلامه في «النزهة» في أدلّة رد المرسَل – وكأن الإمام الشافعي يرحمه الله تعالى قد لاحظ ورود هذا الاحتمال وقوته، فاشترط في المرسَل الآخر أن يكون مرسِله أخذ العلم عن غير رجال التابعي الأول، كما حكاه ابن الصلاح (ص:35)، وكأن ذلك ليغلب على الظن أن المحذوف في أحد المرسَلين هو غيره في المرسَل الآخر، قال: وهذه فائدة دقيقة لم أجدها في غير كلام الشافعي يرحمه الله، فاحفظها وراعها فيما يمر بك من المرسلات التي يذهب البعض إلى تقويتها لمجرد مجيئها من وجهين مرسليْن، دون أن يراعوا هذا الشرط المهم.
قال: ثم رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – قد نص أيضاً على هذا الشرط، في كلام له مفيد في أصول التفسير، نقله عنه الحافظ محمد بن عبدالهادي في كتاب له مخطوط في الأحاديث الضعيفة والموضوعة (حديث 405/221) فقال ابن تيمية يرحمه الله تعالى: وأما أسباب النزول فغالبها مرسل، ليس بمسند، ولهذا قال الإمام أحمد: ثلاث علوم لا إسناد لها، وفي لفظ: ليس لها أصل: التفسير والمغازي والملاحم – يعني أن أحاديثها مرسلة ليست مسندة – والمراسل قد تنازع الناس في قبولها وردها.
وأصح الأقوال: أن منها المقبول، ومنها المردود، ومنها الموقوف، فمن عُلِم من حاله أنَّه لا يرسل إلا عن ثقة؛ قُبِل مرسله، ومن عُرِفَ أنَّه يرسل عن الثقة وغير الثقة؛ كان إرساله رواية عمَن لا يُعرف حاله، فهو موقوف، وما كان من المراسيل مخالفاً لما رواه الثقات؛ كان مردوداً، وإن جاء المرسَل من وجهين كل من الراويين أخذ العلم عن غير شيوخ الآخر، فهذا يدل على صدقه، فإن مثل ذلك لا يُتَصور في العادة تماثل الخطأ فيه وتعمد الكذب.
قال شيخنا الألباني – حفظه الله -: قلت: ومع أن التحقيق من وجود هذا الشرط في كل مرسَل من هذا النوع ليس بالأمر الهين، فإنه لو تحققنا من وجوده، فقد يرد إشكال آخر: وهو أنَّه يحتمل أن يكون كل من الواسطتين أو أكثر ضعيفاً، وعليه يُحتمل أن يكون ضعفهم من النوع الأول الذي ينجبر بمثله الحديث على ما سبق نقله عن ابن الصلاح، ويُحتمل أن يكون من النوع الآخر الذي لا يقوي الحديث بكثرة طرقه، ومع ورود هذه الاحتمالات يسقط الاستدلال بالحديث المرسل وإن تعددت طرقه.
قال: وهذا التحقيق مما لم أجد من سبقني إليه، فإن أصبت فمن الله تعالى، وله الشكر، وإن أخطأت فمن نفسي، واستغفر الله من ذنبي، وبالجملة فالمانع من الاستدلال بالحديث المرسَل الذي تعدد مرسِلوه أحدُ الاحتمالين:
الأول: أن يكون مصدر المرسَلين واحداً.
الثاني: أن يكونوا جميعاً، ولكنهم ضعفاء ضعفاً شديداً...، اهـ.
قلت: احتمال أن يكونوا ضعفاء يرده شرط الشافعي الذي تكلمت عليه في المسألة (أ)، هذا إذا سلمنا بشرط الشافعي، وإذا لم نسلِّ به؛ فاحتمال ثقة الساقط في هذه الطبقة أكثر من احتمال ضعفه، لشيوع العدالة وكثرتها في ذلك العصر، وإن وُجد فيهم من يُعَكِّر هذا الصفو، لكن لقلة ذلك، مع رواية تابعي آخر لنفس الحديث، يَقْوى في النفس ثبوتُ الخبر، واحتمال ثبوته أرجح من احتمال ضعفه؛ إلا إذا ظهرت نكارة في الحديث، أو ظهر لنا أن الحديث يدور على ضعيف، كما في حديث القهقهة، وانظره في «جامع التحصيل» (ص:45)، فإذا ظهر شيء من ذلك؛ فلا يُلتفت إلى المرسَل، وإن تعددت طرقه، وإلا فلا بأس بالاحتجاج بالمرسلَيْن في هذه الحالة، والله أعلم وعلى كل حال فشرط الإمام الشافعي – يرحمه الله -، إن حملناه على شيوخ التابعيَّيْن كما هو ظاهر كلام العلائي في «جامع التحصيل» (ص:41)، فلا بأس بذلك، إلا أن ظاهر الكلام لا يساعد هذا الاحتمال، والله أعلم.
(د) واشترط الشافعي – يرحمه الله – في قبول المرسَل بشواهده: أن يكون المرسِل من كبار التابعين، وذكر العلائي يرحمه الله أن أشتراط الشافعي في المرسِل أن يكون مشايخه ثقات، يفيد أنَّه لا يخص المرسَل بما سقط منه صحابي فقط، فقال – يرحمه الله -:
ثم إن هذا القول من الإمام الشافعي يقتضي أن المرسَل عنده ليس مختصاً بما روى التابعي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، بحيث يكون قد أسقط منه الصحابي فقط، إذ لو كان كذلك؛ لما احتاج إلى هذا الاعتبار في شيوخ المرسِل الذين يرسل عنهم، بل يطلق المرسل على كل ما سقط منه رجل أو أكثر، كما تقدم عن اختيار الخطيب، وأنه اصطلاح جمهور الفقهاء، وحينئذٍ فيشكل على ذلك قول الشافعي في آخر كلامه: «فأما من بعد كبار التابعين، فلا أعلم من يقبل مرسله»، وأراد بذلك رد مراسيل صغار التابعين كالزهري، ونحوه فمن بعدهم بطريق الأوْلى.
قال العلائي: ويمكن الجمع بين الكلامين، بأن الإمام الشافعي يرحمه الله لم يقل برد مراسيل صغار التابعين مطلقاً بالنسبة إليه وإلى غيره، بل أشار إلى علمه وما يترتب على سبره – وفي نسخة: شهرة – أحوالهم، ومقتضى ذلك أن من سبر أحوال الراوي، وعرف منه أنَّه لا يرسل إلا عن عدل ثقة يحتج بمرسله، لكن الإمام الشافعي لم يعرف هذه الحالة من أحد بعد كبار التابعين...، اهـ «جامع التحصيل» (ص:43).
ولما ذكر العلائي المذاهب في قبول المرسل ورده، قال:... وعاشرها: أنَّه لا فرق في هذا الحكم بين كبار التابعين وصغارهم، فكل من اعتضد مرسله بشيء من ذلك كان مقبولاً، وهو محتمل أن يكون مراد الشافعي بقوله، كما تقدم في الجمع بين كلاميه، ويُحتمل أنَّه أراد الوجه الذي قبله – يعني التاسع وهو خاص بكبار التابعين -، اهـ (ص:49).
والذي يظهر من كلام الشافعي أنَّه خص قبول المرسل بشواهده إذا كان المرسِل من كبار التابعين، لكن محاولة العلائي التخفيف من شأن هذا الشرط، تَدل على أن صنيع من بعد الشافعي لم يقف عند هذا الشرط، أو لم يأخذ بكلام الشافعي فيه، لذا احتاج العلائي إلى تأويل كلام الشافعي.
ومما يدل على أن الشافعي يرحمه الله قد خولف في ذلك، ما قاله اللكنوي كما في «ظفر الأماني» (ص:349) في الكلام على قبول المرسل..... وثالثها: أن يكون من كبار التابعين، وهذا الشرط وإن كان منصوصاً في كلام الشافعي، لكن عامة أصحابه لم يأخذوا به، بل أطلقوا القول بقبول مراسيل التابعين، إذا وُجدت فيها الشروط الباقية، اهـ.
ويدل على ذلك أيضاً صنيع الإمام البيهقي في «سننه الكبرى» مع أنَّه نص على اعتماده الكلام الذي قال به الشافعي، كما في «دلائل النبوة» (1/39-40)، إلا أنَّه في «السنن الكبرى» استشهد بالمرسل مطلقاً، كما في: (4/129) ك/ صدقة الزرع، ب/ الصدقة فيما يزرعه الآدميون، فقد استشهد بمراسيل غير كبار التابعين، كالحسن ومجاهد والشعبي، وفي (8/134) ك/ القسامة، ب/ لا يرث القاتل، قوى مرسل ابن المسيب بمرسل الزهري وعمرو بن شعيب وعبدالرحمن بن حرملة الأسلمي، وفي مواضع كثيرة وقف في مرسل ابن المسيب، وقواه هنا في الجملة، فقال: هذه مراسيل يؤكد بعضها بعضاً، وهناك أمثلة كثيرة يستشهد فيها بالمنقطع والمبهم، وقوي بها المراسيل ولا شك أن المرسل – وإن كان من غير كبار التابعين – أولى من سند فيه مبهم غير مسمى.
وكذا صنيع الحافظ ابن حجر في كتبه، فإنه يقوي المراسيل ببعضها دون حصر ذلك في كبار التابعين، يعرف ذلك من نظر في «التلخيص الحبير» و«الفتح» و«نتائج الأفكار» وغيرها، ومن تتبع ذلك ظفر بأمثلة كثيرة، وانظر مثالاً لذلك في نتائج الأفكار (2/152) المجلس (151) وقد أطلق شيخ الإسلام ابن تيمية – يرحمه الله – كما في «مجموع الفتاوى» (13/347) قبول المراسيل إذا تعددت طرقها، فقال: والمراسيل إذا تعددت طرقها، وخلت عن المواطأة قصداً، أو الاتفاق بغير قصد، كانت صحيحة قطعاً.....، اهـ وكلامه هذا قد يحتمل التأويل، والله أعلم.
وفي العلل للرازي (1/100/270) اعتمد أبو زرعة مرسل سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبدالرحمن وعمر مولى غُفْرة عمن حدثه، كلهم عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وذكروا بلالاً في الحديث، بخلاف من جعله عماراً، فسئل أبو زرعة: فما الصحيح عندك بلال أو عمار؟.
فقال أبو زرعة: رواه المدنيون على أنَّه بلال، وهم أعلم، وإن (كانت روايتهم مرسلة) فلولا أنهم سمعوه من أصحاب النبي صلى الله عليه وعلى أله وسلم، ما كانوا يقولونه، اهـ.
مع أنَّه قد يقال: لو سمعوه من الصحابة؛ لصرحوا بأسمائهم، فلما لم يصرحوا دلَّ ذلك على أن من حدثهم من التابعين، ومع هذا الاحتمال، وكون أبي سلمة تابعياً متوسطاً، وعمر مولى غفرة – على ضعفه – من الصغار، فهو من الخامسة، ومع ذلك اعتمد مرسلهم هذا، وإن كان كلام أبي زرعة قد يتطرق إليه تأويل وبحث.
وقد أطلق ابن الصلاح الاعتضاد بالمرسل، ولم يفصل بين كبار التابعين وصغارهم، وتبعه في الإطلاق النووي في عامة كتبه، قاله السخاوي في «فتح المغيث» (1/169) وبين أن النووي تنبه لتقييد الشافعي في شرحه «للوسيط»، وهو من أواخر تصنيفه.
وفي الحاشية (5) اعتراض على السخاوي في دعواه: أن النووي تنبه لذلك القيد في شرحه «للوسيط» فقط، وذكر صاحب الحاشية أن السخاوي تبع فيه العراقي، وإلا فقد نبه النووي على هذا القيد في المجموع (1/103-104)، و«تهذيب الأسماء» 1/1/221).
وانظر المصادر المشار إليها في نهاية السؤال (223) لعله يصفو منها شيء، وعلى كل حال: فالظاهر أن المرسل يتقوى بمثله وبغيره من المعضدات السابقة، وإن رواه صغار التابعين، ما لم تظهر نكارة في الحديث سنداً أو متناً، وما لم يظهر أن الحديث يدور على ضعيف أو من لا يحتج به، أقول هذا وفاقاً لصنيع العلماء والحفاظ المتأخرين، مع علمي بالاحتمالات التي ذكرها الشافعي – يرحمه الله – لأنها احتمالات نادرة، ومعلوم أن كثيراً من الأحكام في هذا العلم مبناها على غلبة الظن، ولو أن كل احتمال عملنا بموجبه، لتعطل علينا كثير من الأحكام، والله المستعان؟.
(تنبيه):
سيأتي – إن شاء الله تعالى – في الكلام على الاستشهاد بالمنقطع في السؤال الآتي (225) أن جماعة من أهل العلم يقوون المنقطع إذا شهد له أحد المعضدات السابقة، فإذا كان هذا حالهم في المنقطع، فما ظنك بمرسل من دون كبار التابعين؟.
(تنبيه آخر):
الظاهر صحة الاستشهاد بمرسل في سنده إلى التابعي ضعيف خفيف، كوهم راوٍ أو عنعنة مدلس، بل استشهد شيخنا الألباني – حفظه الله – بما هو دون ذلك، انظر «الصحيحة» (2/228-635)، (4/55/1540)، والله أعلم.
0 komentar:
Posting Komentar